فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (56- 58):

قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أثبت أن شأنه تعالى فعل ذلك وأمثاله من التفضيل والتحويل على حسب علمه وقدرته، ثبت بغير شبهة أن لا مفزع إلا إليه، فأمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحقيقًا لذلك أن يأمرهم بما يظهر به عجز شركائهم، ردًا عليهم في قولهم: لسنا بأهل لعبادته استقلالًا، فنحن نعبد بعض المقربين ليشفع لنا عنده، فقال تعالى: {قل ادعوا الذين} وأشار إلى ضعف عقولهم وعدم تثبتهم بالتعبير بالزعم فقال تعالى: {زعمتم} أنهم آلهة؛ وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى: {من دونه} أي من سواه كالملائكه وعزير والمسيح والأصنام، ليجلبوا لكم خيرًا، أو يدفعوا عنكم ضرًا {فلا} أي فإن دعوتموهم أو لم تدعوهم فإنهم لا {يملكون كشف الضر} أي البؤس الذي من شأنه أن يرض الجسم كله {عنكم} حتى لا يدعوا شيئًا منه {ولا تحويلًا} له من حالة إلى ما هو أخف منها، فضلًا عن أن يبدلوه بحالة حسنة أو يحولوه إلى عدوكم، والآية نحو قوله تعالى: {فما يستطيعون صرفًا ولا نصرًا} [الفرقان: 19] فكيف يتخذ أحد منهم دوني وكيلًا؟ قالوا: وسبب نزولها شكوى قريش إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما نزل بهم من القحط حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف عليه السلام.
ولم ينصب {يملكون} لئلا يظن أن النفي مسبب عن الدعاء فيتقيد به.
ولما بين أنه لا ضر لهم ولا نفع، بين أنهم يتسابقون إلى القرب إليه رجاء أن ينفعهم وخوف أن يضرهم فقال تعالى: {أولئك} أي الذين أعلوا مراتبهم بالإقبال على طاعة الله، وكان المشركون يعلون مراتبهم بتألههم، وعبر عن ذلك واصفًا للمبتدإ بقوله تعالى: {الذين يدعون} أي يدعوهم الكفار ويتألهونهم؛ ثم أخبر عن المبتدإ بقوله تعالى: {يبتغون} أي يطلبون طلبًا عظيمًا {إلى ربهم} المحسن إليهم وحده {الوسيلة} أي المنزلة والدرجة والقربة بالأعمال الصالحة {أيهم أقرب} أي يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل {ويرجون رحمته} رغبة فيما عنده {ويخافون عذابه} تعظيمًا لجنابه، المكلف منهم كالملائكة والمسيح وعزير بالفعل، وغيرهم كالأصنام بالقوة من حيث إنه قادر على أن يخلق فيها قوة الإدراك للطاعة والعذاب فتكون كذلك فالعابدون لهم أجدر بأن يعبدوه ويبتغوا إليه الوسيلة؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله رضى الله عنهم {إلى ربهم الوسيلة} قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم.
ثم علل خوفهم بأمر عام فقال تعالى: {إن عذاب ربك} أي المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمتك {كان} أي كونًا ملازمًا له {محذورًا} أي جديرًا بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلًا عن غيرهم، لما شوهد من إهلاكه للقرون ومن صنائعه العظيمة.
ولما كان المعنى: فاحذرونا فإنا أبدنا الأمم السالفة ودمرنا القرى المشيدة، عطف عليه قوله تعالى: {وإن} أي وما؛ وأعرق في النفي فقال تعالى: {من قرية} من القرى هذه التي أنتم بها وغيرها {إلا نحن} أي بما لنا من العظمة {مهلكوها} بنوع من الهلاك، لما هم عليه من الكفر أو العصيان، وعن مقاتل أنها عامة للصالحة بالموت والطالحة بالعذاب.
ولما كان الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، وذلك مستغرق لزمان القبل، حذف الجار فقال تعالى: {قبل يوم القيامة} الذي أنتم به مكذبون، كما فعلنا في بيت المقدس في المرتين المذكورتين أول السورة لإفساد أهلها فاحذروا مثل ذلك {أو معذبوها} أي القرية بعذاب أهلها {عذابًا شديداَ} مع بقائها.
ولما أكد ذلك بالاسمية، زاده تأكيدًا في جواب من كأنه قال: هل في ذلك من ثنيا لأن مثله لا يكاد يصدق؟ فقال تعالى: {كان ذلك} أي الأمر العظيم {في الكتاب} الذي عندنا {مسطورًا} على وجه الخبر، والأخبار لا تنسخ، فلو لم يكن حشر كان أمرنا جديرًا بأن يمتثل حذرًا من سطواتنا، ولابد من أن نخيفكم بعد طول أمنكم ونهلك كثيرًا من أعزائكم على يد هذا الرجل الواحد الذي أنتم كلكم متمالئون عليه مستهينون بأمره، مع أنا أرسلناه لعزكم وعلو ذكركم، ولابد أن ندخله إلى بلدكم هذا بجنود أولي بأس شديد، لإفسادكم فيه واستهانتكم به كما فعلنا ببني إسرائيل حين أفسدوا في مسجدهم كما تقدم؛ قال الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتاب الفتن: حدثنا عبد بن أحمد بن محمد الهروي في كتابه ثنا عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين ثنا محمد بن هارون الحضرمي ثنا علي بن عبد الله التميمي ثنا عبد المنعم بن إدريس قال: أخبرنا أبي عن وهب بن منبه قال: الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب إرمينية، وإرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من قبل الجوع والسيف، وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحقرهم حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من قبل عدو يحفزهم مرة برًا ومرة بحرًا، وخراب الريّ من قبل الديلم، وخراب خراسان من قبل تبت، وخراب تبت من قبل الصين، وخراب الصين من قبل الهند، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قبل الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع؛ حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا علي بن محمد بن نصير حدثنا محمد بن خلف أخبرنا سالم بن جنادة أخبرنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة رضى الله عنهم قال: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة» انتهى.
وقد أخرجه الترمذي من هذا الوجه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}.
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة، ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالًا وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ} وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة} وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة.
إذا ثبت هذا فنقول: إن قومًا عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل: إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيرًا، وقيل: إن قومًا عبدوا نفرًا من الجن فأسلم النفر من الجن، وبقي أولئك الناس متمسكين بعبادتهم فنزلت هذه الآية، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب، ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر، وإيصال المنفعة، وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع، فوجب القطع بأنها ليست آلهة.
ولقائل أن يقول: هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم؟ فإن قلتم: لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة.
قلنا: معارضة لذلك قد نرى أيضًا أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة، والمسلمون يقولون: إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة، وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى، وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام.
والجواب: أن الدليل تام كامل، وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة عباد الله.
وخالق الملائكة، وخالق العالم لابد وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالًا منهم.
وإذا ثبت هذا فنقول: كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه، وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة، لأن كون الله مستحقًا للعبادة معلوم، وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى، وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى.
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما جوزوا كون العبد موجدًا لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم.
وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا} والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال: حوله فتحول.
ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة} وفيه قولان: الأول: قال الفراء قوله: {يَدَّعُونَ} فعل الآدميين العابدين.
وقوله: {يَبْتَغُونَ} فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة، والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.
فإن قالوا: لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه، فنقول: هؤلاء الملائكة إما أن يقال: إنها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه، وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.
والقول الثاني: أن قوله: {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ} هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} [الإسراء: 55] وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غير الله تعالى.
واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا: الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه، فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء.
قلنا: الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29].
أما قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا} فالمراد أن من حقه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه.
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} اعلم أنه تعالى لما قال: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] بين أن كل قرية مع أهلها فلابد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين: إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب، وقيل: المراد من قوله: {وَإِن مّن قَرْيَةٍ} قرى الكفار، ولابد أن تكون عاقبتها أحد أمرين: إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية، ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال: {كَانَ ذلك في الكتاب مَسْطُورًا} ومعناه ظاهر. اهـ.